الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْحِـكْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} وقال تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وقال عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}. الْحِكْمَةُ وَحَقِيقَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدَةٌ. وَمُقْتَرِنَةٌ بِالْكِتَابِ. فَالْمُفْرَدَةُ: فُسِّرَتْ بِالنُّبُوَّةِ، وَفُسِّرَتْ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ. وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ. وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَأَمْثَالِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ. كَأَنَّهُ فَسَّرَهَا بِثَمَرَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْكِتَابِ: فَهِيَ السُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْقَضَاءُ بِالْوَحْيِ. وَتَفْسِيرُهَا بِالسُّنَّةِ أَعَمُّ وَأَشْهَرُ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ. قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَ مَالِكٍ: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَالْفِقْهِ، فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَالْحِكْمَةُ حِكْمَتَانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ. فَالْعِلْمِيَّةُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْرِفَةُ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا، خَلْقًا وَأَمْرًا. قَدَرًا وَشَرْعًا. وَالْعِلْمِيَّةُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْحِكْمَةُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ وَلَا تَعُدِّيَهُ حَدَّهُ، مِنْ دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَلَا تُعَجِّلَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَا تُؤَخِّرَهُ عَنْهُ. لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ لَهَا مَرَاتِبُ وَحُقُوقٌ، تَقْتَضِيهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. وَلَهَا حُدُودٌ وَنِهَايَاتٌ تَصِلُ إِلَيْهَا وَلَا تَتَعَدَّاهَا. وَلَهَا أَوْقَاتٌ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ- كَانَتِ الْحِكْمَةُ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. بِأَنْ تُعْطَى كُلُّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا الَّذِي أَحَقَّهُ اللَّهُ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. وَلَا تَتَعَدَّى بِهَا حَدَّهَا. فَتَكُونَ مُتَعَدِّيًا مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ. وَلَا تَطْلُبُ تَعْجِيلَهَا عَنْ وَقْتِهَا فَتُخَالِفَ الْحِكْمَةَ. وَلَا تُؤَخِّرُهَا عَنْهُ فَتُفَوِّتَهَا. وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. فَإِضَاعَتُهَا تَعْطِيلٌ لِلْحِكْمَةِ بِمَنْزِلَةِ إِضَاعَةِ الْبَذْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ. وَتَعَدِّي الْحَقِّ: كَسَقْيِهَا فَوْقَ حَاجَتِهَا، بِحَيْثُ يَغْرِقُ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ وَيَفْسُدُ. وَتَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا: كَحَصَادِهِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ وَكَمَالِهِ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ: إِخْلَالٌ بِالْحِكْمَةِ، وَتَعَدِّي الْحَدِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، خُرُوجٌ عَنْهَا أَيْضًا. وَتَعْجِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. فَالْحِكْمَةُ إِذًا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ الْحِكْمَةَ آدَمَ وَبَنِيهِ. فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ: مَنْ لَهُ إِرْثٌ كَامِلٌ مِنْ أَبِيهِ، وَنِصْفُ الرَّجُلِ- كَالْمَرْأَةِ- لَهُ نِصْفُ مِيرَاثٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ حِكْمَةً فِي هَذَا: الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَأَكْمَلُهُمْ أُولُو الْعَزْمِ. وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. فَكُلُّ نِظَامِ الْوُجُودِ مُرْتَبِطٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكُلُّ خَلَلٍ فِي الْوُجُودِ، وَفِي الْعَبْدِ فَسَبَبُهُ: الْإِخْلَالُ بِهَا. فَأَكْمَلُ النَّاسِ: أَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا. وَأَنْقَصُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْكَمَالِ: أَقَلُّهُمْ مِنْهَا مِيرَاثًا. وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ الْحِكْمَةُ وَآفَاتُهَا: الْعِلْمُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. وَآفَاتُهَا وَأَضْدَادُهَا: الْجَهْلُ، وَالطَّيْشُ، وَالْعَجَلَةُ. فَلَا حِكْمَةَ لِجَاهِلٍ، وَلَا طَائِشٍ، وَلَا عَجُولٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَشْهَدَ نَظَرَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ مِنْ دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ. وَتَعْرِفَ عَدْلَهُ فِي حُكْمِهِ. وَتَلْحَظَ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. أَيْ تَعْرِفُ الْحِكْمَةَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَشْهَدُ حُكْمَهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. فَتَشْهَدُ عَدْلَهُ فِي وَعِيدِهِ، وَإِحْسَانَهُ فِي وَعْدِهِ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِحِكْمَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ عَدْلَهُ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْكَوْنِيَّةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ فِيهَا، وَلَا حَيْفَ وَلَا جَوْرَ. وَإِنْ أَجْرَاهَا عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ. فَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ. وَمَنْ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ الظَّالِمُ. وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يُنْقِصُ خَزَائِنَهُ الْإِنْفَاقُ، وَلَا يَغِيضُ مَا فِي يَمِينِهِ سَعَةُ عَطَائِهِ. فَمَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَهُ فَضْلَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ كَامِلَةٍ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْحَكِيمُ. وَحِكْمَتُهُ لَا تُنَاقِضُ جُودَهُ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَضَعُ بِرَّهُ وَفَضْلَهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَوَقْتِهِ. بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَفَسَدُوا وَهَلَكُوا. وَلَوْ عَلِمَ فِي الْكُفَّارِ خَيْرًا وَقَبُولًا لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرًا لَهُ عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ وَاعْتِرَافًا بِهَا، لَهَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟} أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَيَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ. وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَفِي الْحِكْمَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُطَابَقَةُ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لِمُرَادِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ الْجَبْرِيَّةِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيُ حِكْمَتِهِ. إِذْ مُطَابَقَةُ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادِ: أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةً أَوْ خِلَافَهَا، فَإِنَّ السَّفِيهَ مِنَ الْعِبَادِ: يُطَابِقُ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ لِمَعْلُومِهِ وَمُرَادِهِ. مَعَ كَوْنِهِ سَفِيهًا. الثَّانِي:- مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ-: أَنَّهَا مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَمَنَافِعُهُمُ الْعَائِدَةُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ إِنْكَارٌ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ. وَرَدُّوهَا إِلَى مَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. الثَّالِثُ:- قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ-: أَنَّهَا الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، الَّتِي أَمَرَ لِأَجْلِهَا، وَقَدَّرَ وَخَلَقَ لِأَجْلِهَا. وَهِيَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلَامِهِ. وَلِلرَّدِّ عَلَى طَائِفَتَيِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْلُغَ فِي اسْتِدْلَالِكَ الْبَصِيرَةَ مِنْ دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ. وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ. وَفِي إِشَارَتِكَ الْغَايَةَ. يُرِيدُ أَنْ تَصِلَ بِاسْتِدْلَالِكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ. وَهِيَ الْبَصِيرَةُ الَّتِي تَكُونُ نِسْبَةُ الْعُلُومِ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْبَصَرِ. وَهَذِهِ هِيَ الْخِصِّيصَةُ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ عَنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ. وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أَيْ أَنَا وَأَتْبَاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقِيلَ {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عَطْفٌ عَلَى الْمَرْفُوعِ بِأَدْعُو أَيْ أَنَا أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَمَنِ اتَّبَعَنِي كَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. فَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الِانْتِسَابِ وَالدَّعْوَى. وَقَوْلُهُ: وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ: أَنَّكَ إِذَا أَرْشَدْتَ غَيْرَكَ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِ غَيْرِكَ لَكَ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَقِفُ دُونَهَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الثَّانِي: إِلَى الْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُودِ الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا لَمْ يُشِيرُوا إِلَّا إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا مَرْمَى. وَالْقَوْمُ يُسَمُّونَ أَخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَعَارِفِ وَعَنِ الْمَطْلُوبِ إِشَارَاتٍ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُفْصَحَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مُطَابِقَةٍ، وَشَأْنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ. فَالْكَامِلُ مَنْ إِشَارَتُهُ إِلَى الْغَايَةِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ فَنِيَ عَنْ رَسْمِهِ وَهَوَاهُ وَحَظِّهِ. وَبَقِيَ بِرَبِّهِ وَمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ وَكُلُّ أَحَدٍ، فَإِشَارَتُهُ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ وَهِمَّتِهِ. وَمَعَارِفُ الْقَوْمِ وَهِمَّتُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ إِشَارَتِهِمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُتَفَرِّسِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِلنَّاظِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ. وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ النَّاظِرَ مَتَى نَظَرَ فِي آثَارِ دِيَارِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ: أَوْرَثَهُ فِرَاسَةً وَعِبْرَةً وَفِكْرَةً. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. فَالْأَوَّلُ: فِرَاسَةُ النَّظَرِ وَالْعَيْنِ. وَالثَّانِي: فِرَاسَةُ الْأُذُنِ وَالسَّمْعِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: عَلَّقَ مَعْرِفَتَهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّظَرِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ تَعْرِيفَهُمْ بِلَحْنِ خِطَابِهِمْ عَلَى شَرْطٍ. بَلْ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ. فَقَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْخِطَابِ، وَفَحْوَى الْكَلَامِ وَمَغْزَاهُ. وَاللَّحْنُ ضَرْبَانِ: صَوَابٌ وَخَطَأٌ. فَلَحْنُ الصَّوَابِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفِطْنَةُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثَ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَالثَّانِي: التَّعْرِيضُ وَالْإِشَارَةُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ وَهْوَ مِمَّــــا *** يَشْتَهِي السَّامِعُـونَ يُوزَنُ وَزْنًا مَنْطِقٌ صَائِبٌ. وَتَلْحَنُ أَحْيَــا *** نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْـنًا وَالثَّالِثُ: فَسَادُ الْمَنْطِقِ فِي الْإِعْرَابِ. وَحَقِيقَتُهُ: تَغْيِيرُ الْكَلَامِ عَنْ وَجْهِهِ: إِمَّا إِلَى خَطَأٍ، وَإِمَّا إِلَى مَعْنًى خَفِيٍّ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ مِنْ لَحْنِ خِطَابِهِمْ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِسِيمَاهُ وَمَا فِي وَجْهِهِ. فَإِنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى قَصْدِ قَائِلِهِ وَضَمِيرِهِ أَظْهَرُ مِنَ السِّيمَاءِ الْمَرْئِيَّةِ. وَالْفِرَاسَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّوْعَيْنِ بِالنَّظَرِ وَالسَّمَاعِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وَالْفِرَاسَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِيمَانِيَّةٌ. وَهِيَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَسَبَبُهَا: نُورُ الْفِرَاسَةِ الْإِيمَانِيَّةِ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ. يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَالِي وَالْعَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ. وَحَقِيقَتُهَا: أَنَّهَا خَاطِرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ يَنْفِي مَا يُضَادُّهُ. يَثِبُ عَلَى الْقَلْبِ كَوُثُوبِ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ. لَكِنَّ الْفَرِيسَةَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعُولَةٌ. وَبِنَاءُ الْفِرَاسَةِ كَبِنَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ. وَهَذِهِ الْفِرَاسَةُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ. فَمَنْ كَانَ أَقْوَى إِيمَانًا فَهُوَ أَحَدُّ فِرَاسَةً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: مَنْ نَظَرَ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ نَظَرَ بِنُورِ الْحَقِّ، وَتَكُونُ مَوَادُّ عِلْمِهِ مَعَ الْحَقِّ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ. بَلْ حُكْمُ حَقٍّ جَرَى عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْفِرَاسَةُ شَعَاشِعُ أَنْوَارٍ لَمَعَتْ فِي الْقُلُوبِ، وَتَمَكُّنُ مُعْرِفَةِ جُمْلَةِ السَّرَائِرِ فِي الْغُيُوبِ مَنْ غَيْبٍ إِلَى غَيْبٍ، حَتَّى يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ أَشْهَدَهُ الْحَقُّ إِيَّاهَا، فَيَتَكَلَّمَ عَنْ ضَمِيرِ الْخَلْقِ. وَقَالَ الدَّارَانِيُّ: الْفِرَاسَةُ مُكَاشَفَةُ النَّفْسِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ، وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفِرَاسَةِ؟ فَقَالَ: أَرْوَاحٌ تَتَقَلَّبُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَتُشْرِفُ عَلَى مَعَانِي الْغُيُوبِ. فَتَنْطِقُ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ، نُطْقَ مُشَاهَدَةٍ لَا نُطْقَ ظَنٍّ وَحُسْبَانٍ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ نُجِيدٍ:كَانَ شَاهُ الْكِرْمَانِيُّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا يُخْطِئُ. وَيَقُولُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادُ: الْفِرَاسَةُ أَوَّلُ خَاطِرٍ بِلَا مُعَارِضٍ، فَإِنْ عَارَضَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ. فَهُوَ خَاطِرٌ وَحَدِيثُ نَفْسٍ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ. وَلَكِنْ يَتَّقِي الْفِرَاسَةَ مِنَ الْغَيْرِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. وَلَمْ يَقُلْ: تَفَرَّسُوا. وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: إِذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوهُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ، يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُونَ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَوْمًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ مُتَنَكِّرًا. فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ فَأَطْرَقَ الْجُنَيْدُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أَسْلِمْ. فَقَدْ حَانَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ. وَيُقَالُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ: إِنَّ الصِّدِّيقَ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ فِي يُوسُفَ، حَيْثُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}. وَابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ لِأَبِيهَا فِي مُوسَى: اسْتَأْجِرْهُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}. وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْظَمَ الْأُمَّةِ فِرَاسَةً. وَبَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ مَشْهُورَةٌ. فَإِنَّهُ مَا قَالَ لِشَيْءٍ أَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا قَالَ. وَيَكْفِي فِي فِرَاسَتِهِ: مُوَافَقَتُهُ رَبَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَرَّ بِهِ سَوَّادُ بْنُ قَارِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ. فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ أَنَّ هَذَا كَاهِنٌ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ الْكِهَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عُمَرُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا اسْتَقْبَلْتَ أَحَدًا مِنْ جُلَسَائِكَ بِمِثْلِ مَا اسْتَقْبَلْتَنِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَمَّا سَأَلْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَادِقُ الْفِرَاسَةِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكُنْتُ رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ تَأَمَّلْتُ مَحَاسِنَهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُمْ وَأَثَرُ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي عَيْنَيْهِ. فَقُلْتُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلَكِنْ تَبْصِرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ. وَفِرَاسَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَصْدَقُ الْفِرَاسَةِ. وَأَصْلُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ اللَّذَيْنِ يَهَبُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَحْيَا الْقَلْبُ بِذَلِكَ وَيَسْتَنِيرُ، فَلَا تَكَادُ فِرَاسَتُهُ تُخْطِئُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا؟} كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. وَجَعَلَ لَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ فِي النَّاسِ عَلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. وَيَمْشِي بِهِ فِي الظُّلَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْفِرَاسَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ، وَالسَّهَرِ وَالتَّخَلِّي. فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا. وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى وِلَايَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يَغْتَرُّ بِهَا. وَلِلرُّهْبَانِ فِيهَا وَقَائِعُ مَعْلُومَةٌ. وَهِيَ فِرَاسَةٌ لَا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نَافِعٍ. وَلَا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. بَلْ كَشْفُهَا جُزْئِيٌّ مِنْ جِنْسِ فِرَاسَةِ الْوُلَاةِ، وَأَصْحَابِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا وَالْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ. وَلِلْأَطِبَّاءِ فِرَاسَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ حِذْقِهِمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ. وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُطَالِعْ تَارِيخَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ الطِّبِّ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ، يَقْتَرِنُ بِهَا تَجْرِبَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
الْفِرَاسَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ. وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ. كَالِاسْتِدْلَالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ عَلَى صِغَرِ الْعَقْلِ. وَبِكِبَرِهِ، وَبِسِعَةِ الصَّدْرِ، وَبُعْدِ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهِ: عَلَى سَعَةِ خُلُقِ صَاحِبِهِ. وَاحْتِمَالِهِ وَبِسْطَتِهِ. وَبِضِيقِهِ عَلَى ضِيقِهِ، وَبِخُمُودِ الْعَيْنِ وَكَلَالِ نَظَرِهَا عَلَى بَلَادَةِ صَاحِبِهَا، وَضَعْفِ حَرَارَةِ قَلْبِهِ. وَبِشِدَّةِ بَيَاضِهَا مَعَ إِشْرَابِهِ بِحُمْرَةٍ- وَهُوَ الشَّكْلُ- عَلَى شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ وَفِطْنَتِهِ. وَبِتَدْوِيرِهَا مَعَ حُمْرَتِهَا وَكَثْرَةِ تَقَلُّبِهَا عَلَى خِيَانَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ. وَمُعْظَمُ تَعَلُّقِ الْفِرَاسَةِ بِالْعَيْنِ. فَإِنَّهَا مِرْآةُ الْقَلْبِ وَعُنْوَانُ مَا فِيهِ. ثُمَّ بِاللِّسَانِ. فَإِنَّهُ رَسُولُهُ وَتُرْجُمَانُهُ. وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِزُرْقَتِهَا مَعَ شُقْرَةِ صَاحِبِهَا عَلَى رَدَاءَتِهِ. وَبِالْوَحْشَةِ الَّتِي تُرَى عَلَيْهَا عَلَى سُوءِ دَاخِلِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ. وَكَالِاسْتِدْلَالِ بِإِفْرَاطِ الشَّعَرِ فِي السُّبُوطَةِ عَلَى الْبَلَادَةِ. وَبِإِفْرَاطِهِ فِي الْجُعُودَةِ عَلَى الشَّرِّ. وَبِاعْتِدَالِهِ عَلَى اعْتِدَالِ صَاحِبِهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ اعْتِدَالَ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ: هُوَ مِنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَالرُّوحِ. وَعَنِ اعْتِدَالِهَا يَكُونُ اعْتِدَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. وَبِحَسَبِ انْحِرَافِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ: يَقَعُ الِانْحِرَافُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. هَذَا إِذَا خُلِّيتِ النَّفْسُ وَطَبِيعَتَهَا. وَلَكِنَّ صَاحِبَ الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْتَسِبُ بِالْمُقَارَنَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ أَخْلَاقَ مَنْ يُقَارِنُهُ وَيُعَاشِرُهُ. وَلَوْ أَنَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. فَيَصِيرُ مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا، وَتَعُودُ لَهُ تِلْكَ طِبَاعًا، وَيَتَعَذَّرُ- أَوْ يَتَعَسَّرُ- عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ صَاحَبُ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ الْمُنْحَرِفَةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ يَكْتَسِبُ بِصُحْبَةِ الْكَامِلِينَ بِخُلْطَتِهِمْ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا شَرِيفَةً. تَصِيرُ لَهُ كَالطَّبِيعَةِ. فَإِنَّ الْعَوَائِدَ وَالْمُزَاوَلَاتِ تُعْطِي الْمَلَكَاتِ وَالْأَخْلَاقَ. فَلْيَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يُعَجِّلْ بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاسَةِ دُونَهُ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ يَكُونُ خَطَؤُهُ كَثِيرًا. فَإِنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَسْبَابٌ لَا مُوجِبَةٌ. وَقَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْهَا أَحْكَامُهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ. وَفِرَاسَةُ الْمُتَفَرِّسِ تَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِعَيْنِهِ. وَأُذُنِهِ. وَقَلْبِهِ. فَعَيْنُهُ لِلسِّيمَاءِ وَالْعَلَامَاتِ. وَأُذُنُهُ: لِلْكَلَامِ وَتَصْرِيحِهِ وَتَعْرِيضِهِ، وَمَنْطُوقِهِ، وَمَفْهُومِهِ، وَفَحْوَاهُ وَإِشَارَتِهِ. وَلَحْنِهِ وَإِيمَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَلْبُهُ لِلْعُبُورِ: وَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْظُورِ وَالْمَسْمُوعِ إِلَى بَاطِنِهِ وَخَفِيِّهِ. فَيَعْبُرُ إِلَى مَا وَرَاءَ ظَاهِرِهِ، كَعُبُورِ النُّقَّادِ مِنْ ظَاهِرِ النَّقْشِ وَالسِّكَّةِ إِلَى بَاطِنِ النَّقْدِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ زَغَلٌ؟ وَكَذَلِكَ عُبُورُ الْمُتَفَرِّسِ مِنْ ظَاهِرِ الْهَيْئَةِ وَالدَّلِّ، إِلَى بَاطِنِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، فَنِسْبَةُ نَقْدِهِ لِلْأَرْوَاحِ مِنَ الْأَشْبَاحِ كَنِسْبَةِ نَقْدِ الصَّيْرَفِيِّ يَنْظُرُ لِلْجَوْهَرِ مِنْ ظَاهِرِ السِّكَّةِ وَالنَّقْدِ. وَكَذَلِكَ نَقْدُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ يَمُرُّ إِسْنَادٌ ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ عَلَى مَتْنٍ مَكْذُوبٍ. فَيُخْرِجُهُ نَاقِدُهُمْ، كَمَا يُخْرِجُ الصَّيْرَفِيُّ الزَّغَلَ مِنْ تَحْتِ الظَّاهِرِ مِنَ الْفِضَّةِ. وَكَذَلِكَ فِرَاسَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَلِلْفِرَاسَةِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: جَوْدَةُ ذِهْنِ الْمُتَفَرِّسِ، وَحِدَّةُ قَلْبِهِ، وَحُسْنُ فِطْنَتِهِ. وَالثَّانِي: ظُهُورُ الْعَلَامَاتِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُتَفَرِّسِ فِيهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبَانِ لَمْ تَكَدْ تُخْطِئُ لِلْعَبْدِ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا انْتَفَيَا لَمْ تَكَدْ تَصِحُّ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا قَوِيَ أَحَدُهُمَا وَضَعُفَ الْآخَرُ. كَانَتْ فِرَاسَتُهُ بَيْنَ بَيْنَ. وَكَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرَاسَةً. وَلَهُ الْوَقَائِعُ الْمَشْهُورَةُ. وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ فِيهَا تَآلِيفُ. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ فِرَاسَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أُمُورًا عَجِيبَةً. وَمَا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ تَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا. أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِدُخُولِ التَّتَارِ الشَّامَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ تُكْسَرُ، وَأَنَّ دِمَشْقَ لَا يَكُونُ بِهَا قَتْلٌ عَامٌّ وَلَا سَبْيٌ عَامٌّ، وَأَنَّ كَلَبَ الْجَيْشِ وَحِدَّتَهُ فِي الْأَمْوَالِ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يَهُمَّ التَّتَارُ بِالْحَرَكَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ وَالْأُمَرَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ لَمَّا تَحَرَّكَ التَّتَارُ وَقَصَدُوا الشَّامَ: أَنَّ الدَّائِرَةَ وَالْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَمِينًا. فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيَّ. قُلْتُ: لَا تُكْثِرُوا. كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. أَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ. وَأَنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَأَطْمَعَتْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ حَلَاوَةُ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ الْجُزْئِيَّةُ فِي خِلَالِ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ مِثْلَ الْمَطَرِ. وَلَمَّا طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُرِيدَ قَتْلُهُ- بَعْدَمَا أُنْضِجَتْ لَهُ الْقُدُورُ، وَقُلِّبَتْ لَهُ الْأُمُورُ- اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ لِوَدَاعِهِ. وَقَالُوا: قَدْ تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الْقَوْمَ عَامِلُونَ عَلَى قَتْلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. قَالُوا: أَفَتُحْبَسُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَطُولُ حَبْسِي. ثُمَّ أَخْرُجُ وَأَتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَلَمَّا تَوَلَّى عَدُوُّهُ الْمُلَقَّبُ بِالْجَاشِنْكِيرِ الْمُلْكَ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. وَقَالُوا: الْآنَ بَلَغَ مُرَادَهُ مِنْكَ. فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا وَأَطَالَ. فَقِيلَ لَهُ: مَا سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا بِدَايَةُ ذُلِّهِ وَمُفَارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الْآنِ، وَقُرْبُ زَوَالِ أَمْرِهِ. فَقِيلَ: مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا تُرْبَطُ خُيُولُ الْجُنْدِ عَلَى الْقُرْطِ حَتَّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ. فَوَقَعَ الْأَمْرُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَصْحَابِي وَغَيْرُهُمْ. فَأَرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ أُمُورًا لَا أَذْكُرُهَا لَهُمْ. فَقُلْتُ لَهُ- أَوَ غَيْرِي- لَوْ أَخْبَرْتَهُمْ؟ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أَكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرَّفِ الْوُلَاةِ؟ وَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عَامَلْتَنَا بِذَلِكَ لَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ. فَقَالَ: لَا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ جُمُعَةً، أَوْ قَالَ: شَهْرًا. وَأَخْبَرَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ بِأُمُورٍ بَاطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمَّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانِي. وَأَخْبَرَنِي بِبَعْضِ حَوَادِثَ كِبَارٍ تَجْرِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمْ يُعَيِّنْ أَوْقَاتَهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَهَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ بَقِيَّتَهَا. وَمَا شَاهَدَهُ كِبَارُ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا شَاهَدَتْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفِرَاسَةُ: اسْتِئْنَاسُ حُكْمِ غَيْبٍ تَعْرِيفُهَا وَالِاسْتِئْنَاسُ: اسْتِفْعَالٌ مَنْ آنَسْتَ كَذَا، إِذَا رَأَيْتَهُ. فَإِنْ أَدْرَكْتَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَاسِ حُكْمَ غَيْبٍ: كَانَ فِرَاسَةً. وَإِنْ كَانَ بِالْعَيْنِ: كَانَ رُؤْيَةً. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَدَارِكِ: فَبِحَسَبِهَا. قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِشَاهِدِهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ: أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْبُرُوقِ وَالرُّعُودِ عَلَى الْأَمْطَارِ، وَكَاسْتِدْلَالِ رُؤَسَاءِ الْبَحْرِ بِالْكَدَرِ الَّذِي يَبْدُو لَهُمْ فِي جَانِبِ الْأُفُقِ عَلَى رِيحٍ عَاصِفٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَاسْتِدْلَالِ الطَّبِيبِ بِالسِّحْنَةِ وَالتَّفْسِرَةِ عَلَى حَالِ الْمَرِيضِ. وَيَدِقُّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى حَدٍّ يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْأَذْهَانِ. وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِسِيرَةِ الرَّجُلِ وَسَيْرِهِ عَلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَيُطَابِقُ، أَوْ يَكَادُ. فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْفِرَاسَةِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا هَذِهِ الطَّائِفَةُ. وَهُوَ نَوْعُ فِرَاسَةٍ، لَكِنَّهَا غَيْرُ فِرَاسَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ مَسَائِلِ الطِّبِّ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْفِرَاسَةُ ثَلَاثَةٌ. الْأُولَى: فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ مِنْ دَرَجَاتِ الْفِرَاسَةِ. تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. لِحَاجَةِ سَمْعِ مُرِيدٍ صَادِقٍ إِلَيْهَا. لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ وَمَا ضَاهَأَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ، وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. وَلَمْ تُسْبَقْ بِوُجُودٍ. يُرِيدُ بِهَذَا النَّوْعِ: فِرَاسَةً تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْغَافِلِينَ، الَّذِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ يَقَظَةُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ. الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَلَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُ صَاحِبِهِ. فَيَسْقُطُ عَلَى لِسَانِهِ مُكَاشَفَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. وَذَلِكَ نَادِرٌ. وَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ. وَقَوْلُهُ: لِحَاجَةِ مُرِيدٍ صَادِقٍ. يُشِيرُ إِلَى حِكْمَةِ إِجْرَائِهَا عَلَى لِسَانِهِ. وَهِيَ حَاجَةُ الْمُرِيدِ الصَّادِقِ إِلَيْهَا. فَإِذَا سَمِعَهَا عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ كَانَ أَشَدَّ تَنْبِيهًا لَهُ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَوْقِعًا. وَقَوْلُهُ: لَا يُوقَفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. يَعْنِي لَا يُعْلَمُ الشَّخْصُ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ. وَاتَّصَلَتْ بِهِ. مَا سَبَبُ مُخْرِجِ ذَلِكَ الْكَلَامِ؟ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا هَيَّجَهُ. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِـهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْفَأْلِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيُعْجِبُهُ. وَالطِّيَرَةُ مِنْ هَذَا. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَطَيَّرُ. فَإِنَّ التَّطَيُّرَ شِرْكٌ. وَلَا يَصُدُّهُ مَا سَمِعَ عَنْ مَقْصِدِهِ وَحَاجَتِهِ. بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَيَثِقُ بِهِ. وَيَدْفَعُ شَرَّ التَّطَيُّرِ عَنْهُ بِالتَّوَكُّلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ- وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَّا إِلَّا- يَعْنِي مَنْ يَعْتَرِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهَا بِالتَّوَكُّلِ- مُدْرَجَةٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا. وَمِنْ لَهُ يَقَظَةٌ يَرَى وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ. وَهِيَ مِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ تَارَةً عَلَى لِسَانِ النَّاطِقِ. وَتَارَةً مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ. فَالْإِلْقَاءُ الْمَلَكِيُّ: تَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ. وَالْإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِيُّ: تَحْزِينٌ وَتَخْوِيفٌ وَشِرْكٌ. وَصَدٌّ عَنِ الْمَطَالِبِ. وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ: لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ. وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ اسْتَبْشَرَ. وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ وَحَسُنَ ظَنُّهُ. وَحَمِدَ اللَّهَ. وَسَأَلَهُ إِتْمَامَهُ. وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُصُولِهِ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُوءُهُ: اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَوَثِقَ بِهِ. وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَالْتَجَأَ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نُصْبَ قَلْبِهِ، وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ: كَانَ ضَرَرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ. قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ. وَأَحْوَالُ الْكُهَّانِ مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَغِيبَاتِ بِوَاسِطَةِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّمْعَ، وَلَمْ يَزَلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوُجُودِ. وَيَكْثُرُونَ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَخْفَى فِيهَا نُورُ النُّبُوَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ زَمَانِ جَاهِلِيَّةٍ وَبَلَدِ جَاهِلِيَّةٍ وَطَائِفَةِ جَاهِلِيَّةٍ، فَلَهُمْ نُصِيبٌ مِنْهَا بِحَسَبِ اقْتِرَانِ الشَّيَاطِينِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لَهُمْ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا ضَاهَأَهَا أَيْ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ جِنْسِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ، وَضَرْبِ الْحَصَا وَالْوَدَعِ، وَزَجْرِ الطَّيْرِ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ السَّانِحَ وَالْبَارِحَ، وَالْقُرْعَةِ الشِّرْكِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوسُ الْجَاهِلِيَّةُ الْمُشْرِكَةُ الَّتِي عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرٌ وَبَوَارٌ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ. أَيْ عَنْ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَصْدُرُ عَنْهَا إِلَّا حَقٌّ. يَعْنِي غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. يَعْنِي أَنَّهَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، لَا عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ. وَصَاحِبُهَا دَائِمًا فِي شَكٍّ. لَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تُسَقْ بِوُجُودٍ. أَيْ لَمْ يَسُقْهَا وُجُودُ الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهَا، بَلْ هُوَ فَارِغٌ بَوٌّ غَيْرُ وَاجِدٍ، بَلْ فَاقِدٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوُجُودِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةٌ تُجْنَى عَنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ. وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ. وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ. هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: تُجْنَى مِنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ وَشَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ يَزْدَادُ وَيَنْمُو، وَيَزْكُو عَلَى السَّقْيِ. وَيُؤْتِي أُكُلَهُ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ. وَفُرُوعُهُ فِي السَّمَاءِ، فَمَنْ غَرَسَ الْإِيمَانَ فِي أَرْضِ قَلْبِهِ الطَّيِّبَةِ الزَّاكِيَةِ، وَسَقَى ذَلِكَ الْغِرَاسَ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَالْمُتَابَعَةِ: كَانَ مِنْ بَعْضِ ثَمَرِهِ هَذِهِ الْفِرَاسَةُ. قَوْلُهُ: وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ يَعْنِي: أَنَّ صِدْقَ الْفِرَاسَةِ مَنْ صِدْقِ الْحَالِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْحَالُ أَصْدَقَ وَأَصَحَّ فَالْفِرَاسَةُ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ يَعْنِي أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُولِّدُ الْفِرَاسَةَ، بَلْ أَصْلُهَا نُورُ الْكَشْفِ. وَقُوَّةُ الْفِرَاسَةِ: بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذَا النُّورِ وَضَعْفِهِ، وَقُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ مَادَّتِهِ وَضِعْفِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: فِرَاسَةٌ سَرِيَّةٌ، لَمْ تَجْتَلِبْهَا رَوِيَّةٌ عَلَى لِسَانٍ مُصْطَنَعٍ تَصْرِيحًا أَوْ رَمْزًا. يَحْتَمِلُ لَفْظُ السَّرِيَّةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرَفُ. أَيْ فِرَاسَةٌ شَرِيفَةٌ. فَإِنَّ الرَّجُلَ السَّرِيَّ هُوَ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ. وَجَمْعُهُ سَرَاةٌ، وَمِنْهُ- فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} أَيْ سَيِّدًا مُطَاعًا. وَهُوَ الْمَسِيحُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَرِيَّةٌ بِوَزْنِ شَرِيفَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ السِّرِّ، أَيْ فِرَاسَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسْرَارِ لَا بِالظَّوَاهِرِ, فَتَكُونُ سَرِيَّةٌ بِوَزْنِ شَرِيبَةٌ وَمَكِيثَةٌ. قَوْلُهُ: لَمْ تَجْتَلِبْهَا رَوِيَّةٌ أَيْ لَا تَكُونُ عَنْ فِكْرَةٍ. بَلْ تَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ هُجُومًا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. قَوْلُهُ: عَلَى لِسَانٍ مُصْطَنَعٍ أَيْ مُخْتَارٍ مُصْطَفًى عَلَى غَيْرِهِ. تَصْرِيحًا أَوْ رَمْزًا يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمُخْتَارَ الْمُصْطَفَى يُخْبِرُ بِهَذِهِ الْفِرَاسَةِ الْعَالِيَةِ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ، تَارَةً بِالتَّصْرِيحِ، وَتَارَةً بِالتَّلْوِيحِ، إِمَّا سَتْرًا لِحَالِهِ، وَإِمَّا صِيَانَةً لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَوُصُولِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّعْظِيـمِ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ. فَعَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ تَعْظِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ. وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ: أَشَدُّهُمْ لَهُ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُعَظِّمْهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ. وَلَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَلَا وَصَفَهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَأَقْوَالُهُمْ تَدُورُ عَلَى هَذَا. فَقَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٌ: لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا لَكُمْ لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْمَخُوفِ. وَالْوَقَارُ الْعَظَمَةُ. اسْمٌ مِنَ التَّوْقِيرِ. وَهُوَ التَّعْظِيمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا، وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ خَيْرًا. وَرُوحُ الْعِبَادَةِ: هُوَ الْإِجْلَالُ وَالْمَحَبَّةُ. فَإِذَا تَخَلَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَسَدَتْ. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَذَيْنِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْبُوبِ الْمُعَظَّمِ. فَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّعْظِيمُ: مَعْرِفَةُ الْعَظَمَةِ، مَعَ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّعْظِيمُ. الْأُولَى: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارَضَا بِتَرَخُّصٍ جَافٍّ. وَلَا يُعَرَّضَا لِتَشَدُّدٍ غَالٍ. وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ. هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، تُنَافِي تَعْظِيمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. أَحَدُهَا: التَّرَخُّصُ الَّذِي يَجْفُو بِصَاحِبِهِ عَنْ كَمَالِ الِامْتِثَالِ. وَالثَّانِي: الْغُلُوُّ الَّذِي يَتَجَاوَزُ بِصَاحِبِهِ حُدُودَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَالْأَوَّلُ: تَفْرِيطٌ. وَالثَّانِي: إِفْرَاطٌ. وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْعَتَانِ: إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، وَإِمَّا إِلَى إِفْرَاطٍ وَغُلُوٍّ. وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَافِي عَنْهُ وَالْغَالِي فِيهِ. كَالْوَادِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَالْهُدَى بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ. وَالْوَسَطِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. فَكَمَا أَنَّ الْجَافِيَ عَنِ الْأَمْرِ مُضَيِّعٌ لَهُ، فَالْغَالِي فِيهِ: مُضَيِّعٌ لَهُ. هَذَا بِتَقْصِيرِهِ عَنِ الْحَدِّ. وَهَذَا بِتَجَاوُزِهِ الْحَدَّ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}. وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا. كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْيِ، أَوْ رَمَى الْجَمَرَاتِ بِالصَّخْرَاتِ الْكِبَارِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ، أَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَشْرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا. وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ. كَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ. بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ. وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَوْرَادِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسِّرُوا. وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ. وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَسْتَعِينُ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالسَّيْرِ فِيهَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ. فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ- قَالَهَا ثَلَاثًا- وَهُمُ الْمُتَعَمِّقُونَ الْمُتَشَدِّدُونَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ. فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ. وَلَا تُبَغِّضَنَّ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ. يُرِيدُ: أَنْ لَا يَتَأَوَّلَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِلَّةً تَعُودُ عَلَيْهِمَا بِالْإِبْطَالِ، كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ. فَإِذَا أَمِنَ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ مِنْهُ جَازَ شُرْبُهُ. كَمَا قِيلَ: أَدِرْهَا فَمَا التَّحْرِيمُ فِيهَا لِذَاتِهَا *** وَلَكِنْ لِأَسْبَابٍ تَضَمَّنَّهَا السُّكْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرٌ يُضِلُّ عَنِ الْهُدَى *** فَسِيَّانِ مَاءٌ فِي الزُّجَاجَةِ أَوْ خَمْرُ وَقَدْ بَلَغَ هَذَا بِأَقْوَامٍ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ جُمْلَةً. وَقَدْ حَمَلَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ مَا عَدَا شَرَابِ خَمْرِ الْعِنَبِ مُعَلَّلًا بِالْإِسْكَارِ. فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ مَا شَاءَ، مَا لَمْ يُسْكِرْ. وَمِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تُوهِنُ الِانْقِيَادَ: أَنْ يُعَلِّلَ الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ ضَعِيفَةٍ، لَمْ تَكُنْ هِيَ الْبَاعِثَةَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَضْعُفَ انْقِيَادُ الْعَبْدِ إِذَا قَامَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ عِلَّةُ الْحَكَمِ. وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِعِلَلِ التَّكَالِيفِ خَشْيَةَ هَذَا الْمَحْذُورِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ حَتَّى تَظْهَرَ لَهُ عِلَّتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ. وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ: أَنْ يَضْعُفَ انْقِيَادُهُ لَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى حِكَمِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّكَالِيفِ مَثَلًا. وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِيهَا هِيَ جَمْعِيَّةَ الْقَلْبِ، وَالْإِقْبَالَ بِهِ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: أَنَا أَشْتَغِلُ بِالْمَقْصُودِ عَنِ الْوَسِيلَةِ. فَاشْتَغَلَ بِجَمْعِيَّتِهِ وَخَلْوَتِهِ عَنْ أَوْرَادِ الْعِبَارَاتِ فَعَطَّلَهَا، وَتَرَكَ الِانْقِيَادَ بِحَمْلِهِ الْأَمْرَ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي أَذْهَبَتِ انْقِيَادَهُ. وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَرْكِ تَعَظُّمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَدْ دَخَلَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الطَّوَائِفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَمَا يَدْرِي مَا أَوْهَنَتِ الْعِلَلُ الْفَاسِدَةُ مِنْ الِانْقِيَادِ إِلَّا اللَّهُ. فَكَمْ عَطَّلَتْ لِلَّهِ مِنْ أَمْرٍ. وَأَبَاحَتْ مِنْ نَهْيٍ. وَحَرَّمَتْ مِنْ مُبَاحٍ؟! وَهِيَ الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ السَّلَفِ عَلَى ذَمِّهَا.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْظِيمُ الْحُكْمِ دَرَجَاتُ التَّعْظِيمِ: أَنْ يُبْغَى لَهُ عِوَجٌ، أَوْ يُدَافَعَ بِعِلْمٍ. أَوْ يَرْضَى بِعِوَضٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. وَهُوَ الَّذِي يَخُصُّهُ الْمُصَنِّفُ بِاسْمِ الْحُكْمِ وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْعَى حُكْمَ اللَّهِ الدِّينِيَّ بِالتَّعْظِيمِ. فَكَذَلِكَ يَرْعَى حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ بِهِ. فَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا أَنْ لَا يُبْغَى لَهُ عِوَجٌ أَيْ يُطْلَبَ لَهُ عِوَجٌ، أَوْ يُرَى فِيهِ عِوَجٌ. بَلْ يَرَاهُ كُلَّهُ مُسْتَقِيمًا. لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عَيْنِ الْحِكْمَةِ. فَلَا عِوَجَ فِيهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ أَشْكَلَ عَلَى النَّاسِ جِدًّا. فَقَالَ نُفَاةُ الْقَدَرِ: مَا فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ وَلَا عِوَجٍ. وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَعْظَمِ التَّفَاوُتِ وَالْعِوَجِ. فَلَيْسَتْ بِخَلْقِهِ لَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قَدَرِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ تُقَابِلُهُمْ: بَلْ هِيَ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ وَقَدَرِهِ. فَلَا عِوَجَ فِيهَا. وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مُسْتَقِيمٌ. وَالطَّائِفَتَانِ ضَالَّتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الْهُدَى. وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ أَشَدُّ انْحِرَافًا. لِأَنَّهَا جَعَلَتِ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ. وَعَدَمُ تَفْرِيقِ الطَّائِفَتَيْنِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ، وَالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ: هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِيمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورِهَا: إِنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. فَالْقَضَاءُ فِعْلُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَمَا قَامَ بِهِ. وَالْمَقْضِيُّ مَفْعُولُهُ الْمُبَايِنُ لَهُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ. وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعِوَجِ وَالِاسْتِقَامَةِ. فَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ بَاطِلٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ عَدْلٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ عَدْلٌ، وَمِنْهُ جَوْرٌ، وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مَرَضِيٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَرَضِيٌّ، وَمِنْهُ مَسْخُوطٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مُسَالِمٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَا يُسَالِمُ، وَمِنْهُ مَا يُحَارِبُ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ. وَهُوَ مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ كَمَا رَأَيْتَ وَالْمُنْحَرِفُ عَنْهُ: إِمَّا جَاهِلٌ لِلْحِكْمَةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ، أَوْ لِلْأَمْرِ وَالشَّرْعِ وَلَا بُدَّ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يُبْتَغَى لِلْحُكْمِ عِوَجٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَدْفَعُ بِعِلْمٍ فَأُشْكِلَ مِنَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَدَرِ. وَحَاكِمٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ. فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، أَنْ يُقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدْرُهُ وَحُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، لَا يُنَاقِضُ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ الدِّينِيَّ. بِحَيْثُ تَقَعُ الْمُدَافَعَةُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ هَذَا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ. وَهَذَا إِرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادَانِ قَدْ يَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَارَضَانِ. لَكِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يُدَافَعَ بِالْآخَرِ وَلَا يُعَارَضَ. فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلرَّبِّ تَعَالَى. وَأَوْصَافُهُ لَا يُدَافَعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِنِ اسْتُعِيذَ بِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. فَالْكُلُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. وَهُوَ الْمُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ فَرِضَاهُ- وَإِنْ أَعَاذَ مِنْ سَخَطِهِ- فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَدْفَعُهُ. وَإِنَّمَا يَدْفَعُ تَعَلُّقَهُ بِالْمُسْتَعِيذِ. وَتُعَلُّقُهُ بِأَعْدَائِهِ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ. فَهَكَذَا أَمْرُهُ وَقَدَرُهُ سَوَاءٌ. فَإِنَّ أَمْرَهُ لَا يُبْطِلُ قَدْرَهُ، وَلَا قَدْرُهُ يُبْطِلُ أَمْرَهُ. وَلَكِنْ يَدْفَعُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَائِهِ. فَمَا دُفِعَ قَضَاؤُهُ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ. فَلَمْ يَدْفَعِ الْعِلْمُ الْحُكْمَ بَلِ الْمَحْكُومَ بِهِ. وَالْعِلْمُ وَالْحُكْمُ دَفَعَا الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي قُدِّرَ دَفْعُهُ وَأُمِرَ بِهِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا. فَإِنَّهُ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَالتَّنْفِيذِ لَهُ بِالْقَدَرِ، فَمَا نَفَّذَ الْمُطِيعُ أَمْرَ اللَّهِ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا دُفِعَ مَقْدُورُ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَرْضَى بِعِوَضٍ أَيْ أَنَّ صَاحِبَ مَشْهَدِ الْحُكْمِ قَدْ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ لَا يَطْلُبُ مَعَهُ عِوَضًا. وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْعِوَضِ. فَإِنَّهُ يُشَاهِدُ جَرَيَانَ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمَ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ حَقًّا هُوَ مَالِكُهُ الْحَقُّ. فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُهُ وَيُقْعِدُهُ، وَيُقَلِّبُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ الْعِوَضَ مَنْ غَابَ عَنِ الْحُكْمِ وَذَهَلَ عَنْهُ. وَذَلِكَ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِهِ. فَمِنْ تَعْظِيمِهِ: أَنْ لَا يَرْضَى الْعَبْدُ بِعِوَضٍ يَطْلُبُهُ بِعَمَلِهِ. لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْحُكْمِ وَتَعْظِيمَهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مَا يُعَاوِضُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الَّذِي يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَعْظِيمُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ دَرَجَاتُ التَّعْظِيمِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَجْعَلَ دُونَهُ سَبَبًا، وَلَا يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا، أَوْ يُنَازِعَ لَهُ اخْتِيَارًا. هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحَاكِمِ سُبْحَانَهُ، صَاحِبِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ قَضَائِهِ لَا مَقْضِّيهِ، وَالْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ أَمْرِهِ. وَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَجْعَلَ دُونَهُ سَبَبًا أَيْ لَا تَجْعَلَ لِلْوَصْلَةِ إِلَيْهِ سَبَبًا غَيْرَهُ. بَلْ هُوَ الَّذِي يُوصِّلُ عَبْدَهُ إِلَيْهِ، فَلَا يُوصِّلُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ سِوَاهُ. وَلَا يُدْنِي إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَى رِضَاهُ إِلَّا بِهِ. فَمَا دَلَّ عَلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا هَدَى إِلَيْهِ سِوَاهُ. وَلَا أَدْنَى إِلَيْهِ غَيْرُهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. فَالسَّبَبُ وَسَبَبِيَّتُهُ وَإِيصَالُهُ: كُلُّهُ خَلْقُهُ وَفِعْلُهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا أَيْ لَا تَرَى لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ- لَا لَكَ وَلَا لِغَيْرِكَ- حَقًّا عَلَى اللَّهِ. بَلِ الْحَقُّ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، بِحَقِّ آبَائِي عَلَيْكَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ. أَيُّ حَقٍّ لِآبَائِكَ عَلَيَّ؟ أَلَسْتُ أَنَا الَّذِي هَدَيْتُهُمْ وَمَنَنْتُ عَلَيْهِمْ وَاصْطَفَيْتُهُمْ. وَلِيَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ؟. وَأَمَّا حُقُوقُ الْعَبِيدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ إِثَابَتِهِ لِمُطِيعِهِمْ، وَتَوْبَتِهِ عَلَى تَائِبِهِمْ، وَإِجَابَتِهِمْ لِسَائِلِهِمْ: فَتِلْكَ حُقُوقٌ أَحَقَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ، بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا أَنَّهَا حُقُوقٌ أَحَقُّوهَا هُمْ عَلَيْهِ. فَالْحَقُّ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ بِجُودِهِ وَبِرِّهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِمَحْضِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ وَالْبَصَائِرِ. وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُنْحَرِفَيْنِ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا مِرَارًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لَا يُنَازِعُ لَهُ اخْتِيَارًا. أَيْ إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اخْتَارَ لَكَ أَوْ لِغَيْرِكَ شَيْئًا- إِمَّا بِأَمْرِهِ وَدِينِهِ، وَإِمَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ- فَلَا تُنَازِعُ اخْتِيَارَهُ، بَلِ ارْضَ بِاخْتِيَارِ مَا اخْتَارَهُ لَكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ. وَلَا يَرُدَّ عَلَيْهِ قَدَرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ- وَإِنْ قَدَّرَهَا- لَكِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْهَا لَهُ، فَمُنَازَعَتُهَا غَيْرُ اخْتِيَارِهِ مِنْ عَبْدِهِ. وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَعْظِيمِ الْعَبْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْإِلْهَامِ، وَالْإِفْهَامِ، وَالْوَحْيِ، وَالتَّحْدِيثِ وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرْنَا كَلَامَ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ " هُنَاكَ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ مَنَازِلُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الْمَوَاهِبِ. لَا مِنْ مَنَازِلِ الْمَكَاسِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّكِينَةَ فِي كِتَابِهِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. الْآيَةَ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ: قَرَأَ آيَاتَ السَّكِينَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ جَرَتْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ حَمْلِهَا- مِنْ مُحَارَبَةِ أَرْوَاحٍ شَيْطَانِيَّةٍ، ظَهَرَتْ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ- قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ، قُلْتُ لِأَقَارِبِي وَمَنْ حَوْلِيَ: اقْرَءُوا آيَاتِ السَّكِينَةِ، قَالَ: ثُمَّ أَقْلَعَ عَنِّي ذَلِكَ الْحَالُ، وَجَلَسْتُ وَمَا بِي قَلْبَةٌ. وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا أَيْضًا قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ. فَرَأَيْتُ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي سُكُونِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ. وَأَصْلُ السَّكِينَةِ هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَالسُّكُونُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَخَاوِفِ. فَلَا يَنْزَعِجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَيُوجِبُ لَهُ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةَ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ إِنْزَالِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ. كَيَوْمِ الْهِجْرَةِ، إِذْ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْغَارِ وَالْعَدُوُّ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ. لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَرَآهُمَا. وَكَيَوْمِ حُنَيْنٍ، حِينَ وَلَّوْا مُدَبِّرِينَ مِنْ شِدَّةِ بَأْسِ الْكُفَّارِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ. وَكَيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَا تَحَمَّلُهَا النُّفُوسُ. وَحَسْبُكَ بِضَعْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ حَمْلِهَا- وَهُوَ عُمَرُ- حَتَّى ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلُّ سَكِينَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ طُمَأْنِينَةٌ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ. وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَاهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَـا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْــنَا فَأَنْزِلْنْ سَكِينَةً عَلَيْــنَا *** وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْـنَـا إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَـوْا عَلَيْنَـا *** وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَـةً أَبَيْــنَا وَفِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةُ إِنِّي بَاعِثٌ نَبِيًّا أُمِّيًا، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا. أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ. وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ. ثُمَّ أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبَرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ. وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ. وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": السَّكِينَةُ: اسْمٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا: سَكِينَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أُعْطُوهَا فِي التَّابُوتِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. وَذَكَرُوا صِفَتَهَا قُلْتُ: اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، أَوْ مَعْنًى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَيْنٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي صِفَتِهَا السَّكِينَةُ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ. لَهَا رَأْسَانِ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّهَا صُورَةُ هِرَّةٍ لَهَا جَنَاحَانِ، وَعَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ. وَجَنَاحَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَإِذَا سَمِعُوا صَوْتَهَا أَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبِ الْجَنَّةِ. كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنْ وَهُبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: هِيَ رُوحٌ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَتَكَلَّمُ. إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَخْبَرَتْهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعْنًى. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ وَمَجِيئُهُ إِلَيْكُمْ: سَكِينَةٌ لَكُمْ وَطُمَأْنِينَةٌ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ السَّكِينَةَ فِي نَفْسِ التَّابُوتِ. وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فِيهِ سَكِينَةٌ هِيَ مَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ. فَتَسْكُنُونَ إِلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مِنَ السُّكُونِ، أَيْ طُمَأْنِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. فَفِي أَيْ مَكَانٍ كَانَ التَّابُوتُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَسَكَنُوا.
قَالَ: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَنْوَاعُ السَّكِينَةِ: لِلْأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَةٌ. وَلِمُلُوكِهِمْ كَرَامَةٌ. وَهِيَ آيَةُ النَّصْرِ تَخْلَعُ قُلُوبَ الْأَعْدَاءِ بِصَوْتِهَا رُعْبًا إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ لِلْقِتَالِ. وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ: هِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ فَهِيَ لَهُمْ كَرَامَاتٌ. وَلِلْأَنْبِيَاءِ دَلَالَاتٌ. فَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ: لَا تُعَارِضُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. حَتَّى يُطْلَبَ الْفَرْقَانُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِهِمْ، وَشَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ. نَعَمِ: الْفَرْقَانُ بَيْنَ مَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَا لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَغَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ أَلْيَقُ بِهَا.
قَالَ السَّكِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ الْمُحَدَّثِينَ أَنْوَاعُ السَّكِينَةِ. لَيْسَتْ هِيَ شَيْئًا يُمْلَكُ. إِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ مِنْ لَطَائِفِ صُنْعِ الْحَقِّ. تُلْقِي عَلَى لِسَانِ الْمُحَدَّثِ الْحِكْمَةَ كَمَا يُلْقِي الْمَلَكُ الْوَحْيَ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَنْطِقُ بِنُكَتِ الْحَقَائِقِ مَعَ تَرْوِيحِ الْأَسْرَارِ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ. وَالسَّكِينَةُ إِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ اطْمَأَنَّ بِهَا. وَسَكَنَتْ إِلَيْهَا الْجَوَارِحُ. وَخَشَعَتْ، وَاكْتَسَبَتِ الْوَقَارَ، وَأَنْطَقَتِ اللِّسَانَ بِالصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَنَـا وَالْفُحْشِ، وَاللَّغْوِ وَالْهَجْرِ، وَكُلِّ بَاطِلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ. وَكَثِيرًا مَا يَنْطِقُ صَاحِبُ السَّكِينَةِ بِكَلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ فِكْرَةٍ مِنْهُ، وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا هِبَةٍ، وَيَسْتَغْرِبُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. كَمَا يَسْتَغْرِبُ السَّامِعُ لَهُ. وَرُبَّمَا لَا يَعْلَمُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ: هَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنَ السَّائِلِ، وَالْمُجَالِسِ، وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ: هُوَ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِسْرَاعُ بِقَلْبِهِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَحَضْرَتِهِ، مَعَ تَجَرُّدِهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ، وَتَجْرِيدِهِ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِزَالَةِ نَفْسِهِ مِنَ الْبَيْنِ. وَمَنْ جَرَّبَ هَذَا عَرَفَ مَنْفَعَتَهُ وَعَظَّمَهَا. وَسَاءَ ظَنُّهُ بِمَا يُحْسِنُ بِهِ الْغَافِلُونَ ظُنُونَهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. قَوْلُهُ: وَلَيْسَتْ شَيْئًا يُمْلَكُ يَعْنِي هِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ بِسَبَبِيَّةٍ وَلَا كَسَبِيَّةٍ. وَلَيْسَتْ كَالسَّكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ تُنْقَلُ مَعَهُمْ كَيْفَ شَاءُوا. وَقَوْلُهُ: تُلْقِي عَلَى لِسَانِ الْمُحَدِّثِ الْحِكْمَةَ أَيْ تُجْرِي الصَّوَابَ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا يُلْقِي الْمَلَكُ الْوَحْيَ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. يَعْنِي: أَنَّهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ. بِحَيْثُ تُلْقِي فِي قُلُوبِ أَرْبَابِهَا الْحِكْمَةَ عَنْهُمْ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَالصَّوَابَ. كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَتَلَقَّى الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَكِنْ مَا لِلْأَنْبِيَاءِ مُخْتَصٌّ بِهِمْ. وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: تُنْطِقُ الْمُحَدَّثِينَ بِنُكَتِ الْحَقَائِقِ، مَعَ تَرْوِيجِ الْأَسْرَارِ وَكَشْفِ الشُّبَهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: ذِكْرُ مَرْتَبَةِ الْمُحَدِّثِ، وَأَنَّ هَذَا التَّحْدِيثَ مِنْ مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ الْعَشَرَةِ، وَأَنَّ الْمُحَدِّثَ هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ فِي سِرِّهِ بِالشَّيْءِ، فَيَكُونُ كَمَا يُحَدِّثُ بِهِ. وَالْحَقَائِقُ هِيَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ. وَنُكَتُهَا عُيُونُهَا وَمَوَاضِعُ الْإِشَارَاتِ مِنْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ تِلْكَ تُوجِبُ لِلْأَسْرَارِ رُوحًا تَحْيَا بِهِ وَتَتَنَعَّمُ. وَتَكْشِفُ عَنْهَا شُبَهَاتٍ لَا يَكْشِفُهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَلَا الْأُصُولِيُّونَ. فَتَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ وَالْقُلُوبُ إِلَيْهَا. وَلِهَذَا سُمِّيَتْ سَكِينَةً وَمَنْ لَمْ يَفُزْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَمْ تَنْكَشِفْ عَنْهُ شُبَهَاتُهُ. فَإِنَّهَا لَا يَكْشِفُهَا إِلَّا سَكِينَةُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ.
قَالَ السَّكِينَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعُ السَّكِينَةِ. وَهِيَ شَيْءٌ يَجْمَعُ قُوَّةً وَرُوحًا، يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْخَائِفُ، وَيَتَسَلَّى بِهِ الْحَزِينُ وَالضَّجِرُ. وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ الْعَصِيُّ وَالْجَرِئُ وَالْأَبِيُّ. هَذَا مِنْ عُيُونِ كَلَامِهِ وَغَرَرِهِ الَّذِي تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ. وَتُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ. وَتَظْفَرُ بِهِ عَنْ ذَوْقٍ تَامٍّ. لَا عَنْ مُجَرَّدٍ. فَذَكَرَ: أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: النُّورُ، وَالْقُوَّةُ، وَالرُّوحُ. وَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ ثَمَرَاتٍ: سُكُونُ الْخَائِفِ إِلَيْهِ، وَتَسَلِّي الْحَزِينِ وَالضَّجَرِ بِهِ، وَاسْتِكَانَةُ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْإِبَاءِ إِلَيْهِ. فَبِالرُّوحِ الَّذِي فِيهَا: حَيَاةُ الْقَلْبِ. وَبِالنُّورِ الَّذِي فِيهَا: اسْتِنَارَتُهُ، وَضِيَاؤُهُ وَإِشْرَاقُهُ، وَبِالْقُوَّةِ: ثَبَاتُهُ وَعَزْمُهُ وَنَشَاطُهُ. فَالنُّورُ: يَكْشِفُ لَهُ عَنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، وَحَقَائِقِ الْيَقِينِ. وَيُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرُّشْدِ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ. وَالْحَيَاةُ: تُوجِبُ كَمَالَ يَقَظَتِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَحُضُورِهِ وَانْتِبَاهِهِ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ. وَتَأَهُّبَهُ لِلِقَائِهِ. وَالْقُوَّةُ: تُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ، وَصِحَّةَ الْمَعْرِفَةِ، وَقَهْرَ دَاعِي الْغَيِّ وَالْعَنَتِ، وَضَبْطَ النَّفْسِ عَنْ جَزَعِهَا وَهَلَعِهَا، وَاسْتِرْسَالِهَا فِي النَّقَائِضِ وَالْعُيُوبِ. وَلِذَلِكَ ازْدَادَ بِالسَّكِينَةِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ. وَالْإِيمَانُ: يُثْمِرُ لَهُ النُّورَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُثْمِرُهُ أَيْضًا. وَتُوجِبُ زِيَادَتَهُ. فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِهَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. فَبِالنُّورِ: يَكْشِفُ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ. وَبِالْحَيَاةِ: يَنْتَبِهُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ. وَيَصِيرُ يَقْظَانًا. وَبِالْقُوَّةِ: يَقْهَرُ الْهَوَى وَالنَّفْسَ، وَالشَّيْطَانَ. كَمَا قِيلَ: وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّحْمَـنِ لَيْـسَتْ *** تَحْصُلُ بَاجْتِــهَادٍ، أَوْ بِكَــسْبٍ وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَـذْلِ جُهْــدٍ *** بِإِخْلَاصٍ وَجِدٍّ، لَا بَلِعْــبِ وَفَضْلُ اللَّهِ مَبْذُولٌ. وَلَكِـــنْ *** بِحِكْمَــتِهِ، وَعَنْ ذَا النَّصِّ يُنْبِـي فَمَا مِنْ حِكْـمَةِ الرَّحْمَنِ وَضْعُ الْـ *** ـكَوَاكِبِ بَيْنَ أَحْــجَارٍ وَتُــرْبِ فَشْكْرًا لِلَّذِي أَعْطَـــاكَ مِنْـهُ *** فَلَوْ قَبِلَ الْمَحَــلُّ لَزَادَ رَبِّــي
فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالسَّكِينَةِ- وَهِيَ النُّورُ، وَالْحَيَاةُ وَالرُّوحُ- سَكَنَ إِلَيْهَا الْعِصِيُّ السَّكِينَةُ الَّتِي يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْعِصِيُّ وَهُوَ الَّذِي سُكُونُهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ لِعَدَمِ سَكِينَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ صَارَ سُكُونُهُ إِلَيْهَا عِوَضَ سُكُونِهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَالْمُخَالَفَاتِ. فَإِنَّهُ قَدْ وَجَدَ فِيهَا مَطْلُوبَهُ. وَهُوَ اللَّذَّةُ الَّتِي كَانَ يَطْلُبُهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُعِيضُهُ عَنْهَا. فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ اعْتَاضَ بِذِلَّتِهَا وَرُوحِهَا، وَنَعِيمِهَا عَنْ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ. فَاسْتَرَاحَتْ بِهَا نَفْسُهُ. وَهَاجَ إِلَيْهَا قَلْبُهُ. وَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ. فَصَارَتْ لَذَّتُهُ رُوحَانِيَّةً قَلْبِيَّةً. بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جُسْمَانِيَّةً فَانْسَلَبَ مِنْهَا، وَحُبِسَ عَنْهَا وَخَلَّصَتْهُ. فَإِذَا تَأَلَّقَتْ بُرُوقُهَا قَالَ: تَأَلَّقَ الْبَرْقُ نَجْـدِيًّا فَقُلْتُ لَهُ: *** يَا أَيُّهَا الْبَـرْقُ، إِنِّي عَنْـكَ مَشْغُولُ وَإِذَا طَرَقَتْهُ طُيُوفُهَا الْخَيَالِيَّةُ فِي ظَلَامِ لَيْلِ الشَّهَوَاتِ، نَادَى لِسَانُ حَالِهِ، وَتَمَثَّلَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا *** وَقْتَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَــلَامِ فَإِذَا وَدَّعَتْهُ وَعَزَمَتْ عَلَى الرَّحِيلِ، وَوَعَدَتْهُ بِالْمُوَافَاةِ، بِقَوْلِ الْآخَرِ: قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا *** مَاذَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أَنْ لَا تَرْجِعِي فَإِذَا بَاشَرَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ قَلْبَهُ سَكَّنَتْ خَوْفَهُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْخَائِفُ , وَسَلَّتْ حُزْنَهُ؛ فَإِنَّهَا لَا حُزْنَ مَعَهَا. فَهِيَ سَلْوَةُ الْمَحْزُونِ. وَمُذْهِبَةُ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ. وَكَذَلِكَ تُذْهِبُ عَنْهُ وَخَمَ ضَجَرِهِ. وَتَبْعَثُ نَشْوَةَ الْعَزْمِ. وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَبَيْنَ إِبَاءِ النَّفْسِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ وَأَمَّا سَكِينَةُ الْوَقَارِ، دَرَجَاتُهَا الَّتِي نَزَّلَهَا نَعْتًا لِأَرْبَابِهَا: فَإِنَّهَا ضِيَاءُ تِلْكَ السَّكِينَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سَكِينَةُ الْخُشُوعِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ دَرَجَاتُ سَكِينَةُ الْوَقَارِ: رِعَايَةً، وَتَعْظِيمًا، وَحُضُورًا. سَكِينَةُ الْوَقَارِ هِيَ نَوْعٌ مِنَ السَّكِينَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْوَقَارِ سَمَّاهَا الشَّيْخُ سَكِينَةَ الْوَقَارِ. وَقَوْلُهُ: نَزَّلَهَا نَعْتًا يَعْنِي نَزَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا. وَنَعَتَهُمْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهَا ضِيَاءُ تِلْكَ السَّكِينَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَيْ نَتِيجَتُهَا وَثَمَرَتُهَا. وَعَنْهَا نَشَأَتْ. كَمَا أَنَّ الضِّيَاءَ عَنِ الشَّمْسِ حَصَلَ. وَلَمَّا كَانَ النُّورُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُوَّةُ- الَّتِي ذَكَرْنَاهَا- مِمَّا يُثْمِرُ الْوَقَارَ: جَعَلَ سَكِينَةَ الْوَقَارِ كَالضِّيَاءِ لِتِلْكَ السَّكِينَةِ. إِذْ هُوَ عَلَامَةُ حُصُولِهَا. وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا. كَدَلَالَةِ الضِّيَاءِ عَلَى حَامِلِهِ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سَكِينَةُ الْخُشُوعِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ يُرِيدُ بِهِ الْوَقَارَ وَالْخُشُوعَ الَّذِي يَحْصُلُ لِصَاحِبِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ مُوجِبًا لِلْخُشُوعِ، وَدَاعِيًا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}. دَعَاهُمْ مِنْ مَقَامِ الْإِيمَانِ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ. يَعْنِي: أَمَا آنَ لَهُمْ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِيمَانِ؟ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِخُشُوعِهِمْ لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ؟ قَوْلُهُ: رِعَايَةً، وَتَعْظِيمًا، وَحُضُورًا هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. تُحَقِّقُ الْخُشُوعَ فِي الْخِدْمَةِ. وَهِيَ رِعَايَةُ حُقُوقِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَلَيْسَ يُضَيِّعُهَا خُشُوعٌ وَلَا وَقَارٌ. الثَّانِي: تَعْظِيمُ الْخِدْمَةِ وَإِجْلَالُهَا. وَذَلِكَ تَبَعٌ لِتَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ وَإِجْلَالِهِ وَوَقَارِهِ. فَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَإِجْلَالِهِ وَوَقَارِهِ: يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لِخِدْمَتِهِ، وَإِجْلَالُهُ وَرِعَايَتُهُ لَهَا. وَالثَّالِثُ: الْحُضُورُ. وَهُوَ إِحْضَارُ الْقَلْبِ فِيهَا مُشَاهَدَةَ الْمَعْبُودِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُثْمِرُ لَهُ سَكِينَةَ الْوَقَارِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: السَّكِينَةُ عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ بِمُحَاسَبَةِ النُّفُوسِ، وَمُلَاطَفَةِ الْخَلْقِ، وَمُرَاقَبَةِ الْحَقِّ دَرَجَاتُ سَكِينَةِ الْوَقَارِ هَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ الَّتِي يَحُومُ عَلَيْهَا أَهْلُ التَّصَوُّفِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي يُشَمِّرُونَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. وَتَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ، حَتَّى تَعْرِفَ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَرْسِلُ فِي الْحُقُوقِ اسْتِرْسَالًا، فَيُضَيِّعُهَا وَيُهْمِلُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاتَهَا وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا. فَلَا تَزْكُو وَلَا تَطْهُرُ وَلَا تَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا. قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ- وَاللَّهِ- لَا تَرَاهُ إِلَّا قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَةٍ؟ مَا أَرَدْتُ بِمَدْخَلِ كَذَا وَمَخْرَجِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِهَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا. وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَبِمُحَاسَبَتِهَا يَطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا. فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا. الثَّانِي: مُلَاطَفَةُ الْخَلْقِ. وَهِيَ مُعَامَلَتُهُمْ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ. وَلَا يُعَامِلُهُمْ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ. وَيُغْرِيهِمْ بِهِ. وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ وَوَقْتَهُ، فَلَيْسَ لِلْقَلْبِ أَنْفَعُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِاللُّطْفِ. فَإِنَّ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِذَلِكَ: إِمَّا أَجْنَبِيٌّ. فَتَكْسِبُ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَإِمَّا صَاحِبٌ وَحَبِيبٌ فَتَسْتَدِيمُ صُحْبَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ. وَإِمَّا عَدُوٌّ وَمُبْغِضٌ. فَتُطْفِئُ بِلُطْفِكَ جَمْرَتَهُ. وَتَسْتَكْفِي شَرَّهُ. وَيَكُونُ احْتِمَالُكَ لِمَضَضِ لُطْفِكَ بِهِ دُونَ احْتِمَالِكَ لِضَرَرِ مَا يَنَالُكَ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِ وَالْعُنْفِ بِهِ. الثَّالِثُ: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لِكُلِّ صَلَاحٍ وَخَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ. وَلَا تَصِحُّ الدَّرَجَتَانِ الْأُولَتَانِ إِلَّا بِهَذِهِ. وَهِيَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَمَا قَبْلَهُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ، وَعَوْنٌ عَلَيْهِ. فَمُرَاقَبَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تُوجِبُ إِصْلَاحَ النَّفْسِ، وَاللُّطْفَ بِالْخَلْقِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: السَّكِينَةُ الَّتِي تُثْبِتُ الرِّضَا بِالْقَسْمِ. وَتَمْنَعُ مِنَ الشَّطْحِ الْفَاحِشِ. وَتَقِفُ صَاحِبَهَا عَلَى حَدِّ الرُّتْبَةِ، دَرَجَاتُ سَكِينَةِ الْوَقَارِ وَالسَّكِينَةُ لَا تَنْزِلُ إِلَّا فِي قَلْبِ نَبِيٍّ، أَوْ وَلِيٍّ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَنَّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ لِأَهْلِ الصَّحْوِ بَعْدَ السُّكْرِ. وَلِمَنْ شَامَ بَوَارِقَ الْحَقِيقَةِ. فَقَوْلُهُ: تُثْبِتُ الرِّضَا بِالْقَسْمِ أَيْ تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَرْضَى بِالْمَقْسُومِ. وَلَا تَتَطَلَّعَ نَفْسُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَتَمْنَعُ مِنَ الشَّطْحِ الْفَاحِشِ يَعْنِي مِثْلَ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَسَهْلٍ وَأَمْثَالِهِمَا. فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ لَهُمْ هَذِهِ السَّكِينَةُ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمُ الشَّطَحَاتُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّطْحَ سَبَبُهُ عَدَمُ السَّكِينَةِ. فَإِنَّهَا إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَلْبِ مَنَعَتْهُ مِنَ الشَّطْحِ وَأَسْبَابِهِ. قَوْلُهُ: وَتُوقِفُ صَاحِبَهَا عَلَى حَدِّ الرُّتْبَةِ أَيْ تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حَدِّهِ مِنْ رُتْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَا يَتَعَدَّى مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَحْدَّهَا. قَوْلُهُ: وَالسَّكِينَةُ لَا تَنْزِلُ إِلَّا عَلَى قَلْبِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَوَاهِبِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمِنَحِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ عَطَايَاهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ أُعْطِيَهَا فَقَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْوِلَايَةِ، وَأُعْطِيَ مَنْشُورَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الطُّمَأْنِينَةِ مَنَازِلُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِعَانَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. الطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ. وَعَدَمُ اضْطِرَابِهِ وَقَلَقِهِ. وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ أَيِ الصِّدْقُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُ السَّامِعِ. وَيَجِدُ عِنْدَهُ سُكُونًا إِلَيْهِ. وَالْكَذِبُ يُوجِبُ لَهُ اضْطِرَابًا وَارْتِيَابًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ أَيْ سَكَنَ إِلَيْهِ وَزَالَ عَنْهُ اضْطِرَابُهُ وَقَلَقُهُ. وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ هَاهُنَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ. فَإِنَّهُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَيَسْكُنُ. فَإِذَا اضْطَرَبَ الْقَلْبُ وَقَلِقَ فَلَيْسَ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا فِي الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ. إِذَا حَلَفَ الْمُؤْمِنُ عَلَى شَيْءٍ سَكَنَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ وَاطْمَأَنَّتْ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، يَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَيَطْمَئِنُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هَاهُنَا الْقُرْآنُ. وَهُوَ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ. بِهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ. فَإِنَّ سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ يَقِينِهِ. وَاضْطِرَابَهُ وَقَلَقَهُ مِنْ شَكِّهِ. وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُحَصِّلُ لِلْيَقِينِ، الدَّافِعُ لِلشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، فَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذِكْرَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ- وَهُوَ كِتَابُهُ- مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ: قَيَّضَ لَهُ شَيْطَانًا يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنِ السَّبِيلِ. وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى. وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ- وَهُوَ كِتَابُهُ- وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَلِفِ: فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْمَقْصُودِ. فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْحَلِفِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى الصَّادِقِ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ. وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَنْ يَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَوْ حَلَفَ. وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُفُوسِهِمْ، وَجَعَلَ الْغِبْطَةَ وَالْمِدْحَةَ وَالْبِشَارَةَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ. فَطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً. فَهُنَاكَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَدْخُلُ فِي عِبَادِهِ. وَتَدْخُلُ جَنَّتَهُ. وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ اللَّهُمَّ هَبْ لِي نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً إِلَيْكَ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الطُّمَأْنِينَةُ مَعْنَاهَا: سُكُونٌ يُقَوِّيهِ أَمْنٌ صَحِيحٌ، شَبِيهٌ بِالْعِيَانِ. وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّكِينَةِ فَرْقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّكِينَةَ صَوْلَةٌ تُورِثُ خُمُـودَ الْـهَيْبَةِ أَحْيَـانًا. وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ أَمْنٍ فِي اسْتِرَاحَةِ أُنْسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّكِينَةَ تَكُونُ نَعْتًا. وَتَكُونُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ لَا تُفَارِقُ صَاحِبَهَا. الطُّمَأْنِينَةُ مُوجِبُ السَّكِينَةِ. وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. وَكَأَنَّهَا نِهَايَةُ السَّكِينَةِ. فَقَوْلُهُ: سُكُونٌ يُقَوِّيهِ أَمْنٌ أَيْ سُكُونُ الْقَلْبِ مَعَ قُوَّةِ الْأَمْنِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَكُونُ أَمْنَ غُرُورٍ. فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ إِلَى أَمْنِ الْغُرُورِ. وَلَكِنْ لَا يَطْمَئِنُّ بِهِ لِمُفَارَقَةِ ذَلِكَ السُّكُونِ لَهُ. وَالطُّمَأْنِينَةُ لَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِقَامَةِ. يُقَالُ: اطْمَأَنَّ بِالْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَسَبَبُ صِحَّةِ هَذَا الْأَمْنِ الْمُقَوِّي لِلسُّكُونِ: شِبَهُهُ بِالْعِيَانِ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ. بَلْ كَأَنَّ صَاحِبَهُ يُعَايِنُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ. فَيَأْمَنُ بِهِ اضْطِرَابَ قَلْبِهِ وَقَلَقَهُ وَارْتِيَابَهُ. وَأَمَّا الْفَرْقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّكِينَةِ. فَحَاصِلُ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ السَّكِينَةَ تَصُولُ عَلَى الْهَيْبَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ. فَتُخْمِدُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. فَيَسْكُنُ الْقَلْبُ مِنِ انْزِعَاجِ الْهَيْبَةِ بَعْضَ السُّكُونِ. وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَلَيْسَ حُكْمًا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. وَهَذَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ دَائِمًا. وَيَصْحَبُهُ الْأَمْنُ وَالرَّاحَةُ بِوُجُودِ الْأُنْسِ. فَإِنَّ الِاسْتِرَاحَةَ فِي السَّكِينَةِ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ فَقَطْ. وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي مَنْزِلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ مَعَ زِيَادَةِ أُنْسٍ. وَذَلِكَ فَوْقَ مُجَرَّدِ الْأَمْنِ، وَقَدْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مَلَكَةٌ، وَمَقَامٌ لَا يُفَارَقُ. وَالسَّكِينَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى سَكِينَةٍ هِيَ مَقَامٌ وَنَعْتٌ لَا يَزُولُ وَإِلَى سَكِينَةٍ تَكُونُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَمْرَانِ، سِوَى مَا ذَكَرَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَفَرَهُ وَفَوْزَهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي حَصَّلَ لَهُ السَّكِينَةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَاجَهَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ هَلَاكَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَدُّوهُ، فَسَكَنَ رَوْعُهُ. وَالطُّمَأْنِينَةُ بِمَنْزِلَةِ حِصْنٍ رَآهُ مَفْتُوحًا فَدَخَلَهُ. وَأَمِنَ فِيهِ. وَتَقَوَّى بِصَاحِبِهِ وَعِدَّتِهِ. فَلِلْقَلْبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: الْخَوْفُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ مِنَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ. الثَّانِي: زَوَالُ ذَلِكَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ عَنْهُ وَعَدَمُهُ. الثَّالِثُ: ظَفَرُهُ وَفَوْزُهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الْوَارِدُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ وَيُقَارِنُهُ. فَالطُّمَأْنِينَةُ تَسْتَلْزِمُ السَّكِينَةَ وَلَا تُفَارِقُهَا. وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. لَكِنَّ اسْتِلْزَامَ الطُّمَأْنِينَةِ لِلسَّكِينَةِ أَقْوَى مِنِ اسْتِلْزَامِ السَّكِينَةِ لِلطُّمَأْنِينَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَمُّ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِهِ، وَالْيَقِينِ وَالظَّفَرِ بِالْمَعْلُومِ. وَلِهَذَا اطْمَأَنَّتِ الْقُلُوبُ بِالْقُرْآنِ لَمَّا حَصَلَ لَهَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ وَالْهِدَايَةُ بِهِ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ. وَاكْتَفَتْ بِهِ مِنْهُ، وَحَكَّمَتْهُ عَلَيْهَا وَعَزَلَتْهَا. وَجَعَلَتْ لَهُ الْوِلَايَةَ بِأَسْرِهَا كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ. فَبِهِ خَاصَمَتْ، وَإِلَيْهِ حَاكَمَتْ. وَبِهِ صَالَتْ. وَبِهِ دَفَعَتِ الشُّبَهَ. وَأَمَّا السَّكِينَةُ: فَإِنَّهَا ثَبَاتُ الْقَلْبِ عِنْدَ هُجُومِ الْمَخَاوِفِ عَلَيْهِ، وَسُكُونُهُ وَزَوَالُ قَلَقِهِ وَاضْطِرَابِهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِحِزْبِ اللَّهِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَصَوْلَتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ دَرَجَاتُ الطُّمَأْنِينَةِ. وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، وَالضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ، وَالْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ. قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِكَلَامِهِ وَكِتَابِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ. وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ. فَذَكَرَ طُمَأْنِينَةَ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، فَإِنَّ الْخَائِفَ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَاشْتَدَّ بِهِ. وَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيحَهُ، وَيَحْمِلَ عَنْهُ: أَنْزَلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ، فَاسْتَرَاحَ قَلْبُهُ إِلَى الرَّجَاءِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ. وَسَكَنَ لَهِيبُ خَوْفِهِ. وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ: فَالْمُرَادُ بِهَا: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ الضَّجَرُ مِنْ قُوَّةِ التَّكَالِيفِ، وَأَعْبَاءِ الْأَمْرِ وَأَثْقَالِهِ- وَلَا سِيَّمَا مَنْ أُقِيمَ مُقَامَ التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ- فَإِنَّ مَا يَحْمِلُهُ وَيَتَحَمَّلُهُ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ وَيَتَحَمَّلُونَهُ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ الضَّجَرُ، وَيَضْعُفَ صَبْرُهُ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيحَهُ وَيَحْمِلَ عَنْهُ: أَنْزَلَ عَلَيْهِ سَكِينَتَهُ. فَاطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الدِّينِيِّ، وَحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ. وَلَا طَمَأْنِينَةَ لَهُ بِدُونِ مُشَاهَدَةِ الْحُكْمَيْنِ. وَبِحَسَبِ مُشَاهَدَتِهِ لَهُمَا تَكُونُ طُمَأْنِينَتُهُ. فَإِنَّهُ إِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الدِّينِيِّ عَلِمَ أَنَّهُ دِينُهُ الْحَقُّ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ وَنَاصِرُ أَهْلِهِ وَكَافِيهِمْ وَوَلِيُّهُمْ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ: عَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا يَشَاءُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَلَا وَجْهَ لِلْجَزَعِ وَالْقَلَقِ إِلَّا ضَعْفُ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْمَحْذُورَ وَالْمَخُوفَ: إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى صَرْفِهِ بَعْدَ أَنْ أُبْرِمَ تَقْدِيرُهُ. فَلَا جَزَعَ حِينَئِذٍ لَا مِمَّا قُدِّرَ وَلَا مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ. نَعَمْ إِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ حِيلَةٌ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْجَرَ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حِيلَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْجَرَ مِنْهَا. فَهَذِهِ طُمَأْنِينَةُ الضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا قَدْ قُضَى يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ *** وَلَكِ الْأَمَانُ مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْــدَرِ وَتَحَقَّقِي أَنَّ الْمُقَـــدَّرَ كَائِـنٌ *** يَجْرِي عَلَيْكِ حَذَرْتِ أَمْ لَمْ تَحْـذَرِي وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُبْتَلَى إِذَا قَوِيَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِلْمَثُوبَةِ سَكَنَ قَلْبُهُ وَاطْمَأَنَّ بِمُشَاهَدَةِ الْعِوَضِ. وَإِنَّمَا يَشْتَدُّ بِهِ الْبَلَاءُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مُلَاحَظَةُ الثَّوَابِ. وَقَدْ تَقْوَى مُلَاحَظَةُ الْعِوَضِ حَتَّى يَسْتَلِذَّ بِالْبَلَاءِ وَيَرَاهُ نِعْمَةً، وَلَا تَسْتَبْعِدْ هَذَا. فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِذَا تَحَقَّقَ نَفْعَ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ فَإِنَّهُ يَكَادُ يَلْتَذُّ بِهِ. وَمُلَاحَظَتُهُ لِنَفْعِهِ تُغَيِّبُهُ عَنْ تَأَلُّمِهِ بِمَذَاقِهِ أَوْ تُخَفِّفِهِ عَنْهُ. وَالْعَمَلُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَصَائِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْكَشْفِ، وَفِي الشَّوْقِ إِلَى الْعِدَةِ. وَفِي التَّفْرِقَةِ إِلَى الْجَمْعِ دَرَجَاتُ الطُّمَأْنِينَةِ. طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ أَنْ تَطْمَئِنَّ فِي حَالِ قَصْدِهَا. وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْكَشْفِ: كَشَفُ الْحَقِيقَةِ، لَا الْكَشْفُ دَرَجَاتُهُ الْجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ. وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. كَشْفٌ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَهُوَ الْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَكَشْفٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ الْمَقْصُودِ بِالسَّيْرِ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ وَتَفَاصِيلِهِ. وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ حَقَّ رِعَايَتِهِ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَّا الدَّعَاوَى وَالشَّطْحُ وَالْغُرُورُ. وَقَوْلُهُ: وَفِي الشَّوْقِ إِلَى الْعِدَةِ. يَعْنِي أَنَّ الرُّوحَ تَظْهَرُ فِي اشْتِيَاقِهَا إِلَى مَا وُعِدَتْ بِهِ، وَشُوِّقَتْ إِلَيْهِ، فَطُمَأْنِينَتُهُا بِتِلْكَ الْعِدَةِ: تُسِكِّنُ عَنْهَا لَهِيبَ اشْتِيَاقِهَا. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَاقٍ إِلَى مَحْبُوبٍ وُعِدَ بِحُصُولِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِرُوحِهِ الطُّمَأْنِينَةُ بِسُكُونِهَا إِلَى وَعْدِ اللِّقَاءِ. وَعِلْمُهَا بِحُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ. قَوْلُهُ: وَفِي التَّفْرِقَةِ إِلَى الْجَمْعِ أَيْ وَتَطْمَئِنُّ الرُّوحُ فِي حَالِ تَفْرِقَتِهَا إِلَى مَا اعْتَادَتْهُ مِنَ الْجَمْعِ، بِأَنْ تُوَافِيَهَا رُوحُهُ فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنَّ بِهِ، كَمَا يَطْمَئِنُّ الْجَائِعُ الشَّدِيدُ الْجُوعِ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ رَقِيقٍ. وَشَامَ بَرْقَهُ. فَاطْمَأَنَّ بِحُصُولِهِ. وَأَمَّا مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْحُجُبُ الْكَثِيفَةُ: فَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: طُمَأْنِينَةُ شُهُودِ الْحَضْرَةِ إِلَى اللُّطْفِ. وَطُمَأْنِينَةُ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ. وَطُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ إِلَى نُورِ الْأَزَلِ دَرَجَاتُ الطُّمَأْنِينَةِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، فَالْوَاصِلُ إِلَى شُهُودِ الْحَضْرَةِ: مُطْمَئِنٌّ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ. وَحَضْرَةِ الْجَمْعِ يُرِيدُونَ بِهَا الشُّهُودَ الذَّاتِيَّ. فَإِنَّ الشُّهُودَ عِنْدَهُمْ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ تَعَلُّقِهِ. فَشُهُودُ الْأَفْعَالِ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشُّهُودِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ إِلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالتَّجَلِّي عِنْدَ الْقَوْمِ: بِحَسَبِ هَذِهِ الشُّهُودِ الثَّلَاثَةِ. فَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَفْعَالِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ: وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الذَّاتِ: يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْهُمْ. وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهِمْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَحَلِّ عَجْزٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْحَرَكَةِ. فَرُبَّمَا عَطَّلَ بَعْضَ الْفُرُوضِ، وَهَذَا لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَجْزِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْكَامِلُونَ مِنْهُمْ قَدْ يَفْتُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ وَسُنَنِهَا وَحُقُوقِهَا. وَلَا يَقْعُدُ بِهِمْ ذَلِكَ الشُّهُودُ وَالتَّجَلِّي عَنْهَا. وَلَا يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ النَّوَافِلِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَعْرِضْ عَلَيْهِمْ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ رُجُوعٌ وَانْقِطَاعٌ. وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَصْحَبُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِ وَنَوَافِلِهِ. فَلَا يُعَطِّلُ ذَرَّةً مِنْ أَوْرَادِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْقُلُوبِ أَشَدَّ مِنْ تَفَاوُتِ قُوَى الْأَبْدَانِ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَوْلَا طُمَأْنِينَتُهُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ لَمَحَقَهُ شُهُودُ الْحَضْرَةِ وَأَفْنَاهُ جُمْلَةً. فَقَدْ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. وَتَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ مِنْ تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ. هَذَا وَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ كَذَلِكَ، وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ أَبَدًا. وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ، وَاسْتِيلَاءُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ عَلَى الْقَلْبِ فَقَطْ. وَإِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ، وَخَيَالَاتِهِمْ وَرَعُونَاتِهِمْ، وَإِنْ سَمَّوْكَ مَحْجُوبًا، فَقُلِ: اللَّهُمَّ زِدْنِي مِنْ هَذَا الْحِجَابِ الَّذِي مَا وَرَاءَهُ إِلَّا الْخَيَالَاتُ وَالتُّرَّهَاتُ وَالشَّطَحَاتُ. فَكَلِيمُ الرَّحْمَنِ وَحْدَهُ مَعَ هَذَا لَمْ تَتَجَلَّ الذَّاتُ لَهُ، وَأَرَاهُ رَبُّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِتَجَلِّي ذَاتِهِ، لَمَّا أَشْهَدَهُ مِنْ حَالِ الْجَبَلِ، وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، لَمَّا رَأَى مَا رَأَى مِنْ حَالِ الْجَبَلِ عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ لَهُ. وَلَمْ يَكُنْ تَجَلِّيًا مُطْلَقًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مِنْخَرِ ثَوْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مِثْلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ دَكًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ. وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: هَكَذَا- وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ- فَسَاخَ الْجَبَلُ. وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ اسْتَعْظَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: تُحَدِّثُ بِهَذَا؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ: يُحَدِّثُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُنْكِرُهُ أَنْتَ، وَلَا أُحَدِّثُ بِهِ؟ فَإِذَا شَهِدَ لَكَ الْمَخْدُوعُونَ بِأَنَّكَ مَحْجُوبٌ عَنْ تُرَّهَاتِهِمْ وَخَيَالَاتِهِمْ، فَتِلْكَ الشَّهَادَةُ لَكَ بِالِاسْتِقَامَةِ. فَلَا تَسْتَوْحِشْ مِنْهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ فَمَشْهَدٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْكُمَّلِ. فَإِنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ تُعْفِي الْآثَارَ، وَتَمْحُو الْأَغْيَارَ. وَتَحُولُ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ لِلْخَلْقِ. فَيَرَى الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ. وَيَرَى كُلَّ شَيْءٍ قَائِمًا بِهِ، مُتَوَحِّدًا فِي كَثْرَةِ أَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلَا يَرَى مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَا يَشْهَدُهُ عَكْسَ حَالِ مَنْ يَشْهَدُ غَيْرَهُ. وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الشُّهُودِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْهُ إِلَى مَقَامِ الْبَقَاءِ وَإِلَّا انْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا. فَفِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَى حُصُولِ الْبَقَاءِ وَإِلَّا عَطَّلَ الْأَمْرَ. وَخَلَعَ رِبْقَةَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُنُقِهِ. فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى الْبَقَاءِ طُمَأْنِينَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ وَإِلَّا فَسَدَ وَهَلَكَ- كَانَ هَذَا مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ إِلَى نُورِ الْأَزَلِ فَيُرِيدُ بِهِ: طُمَأْنِينَةَ مَقَامِهِ إِلَى السَّابِقَةِ الَّتِي سَبَقَ بِهَا الْأَزَلُ. فَلَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلِهَذَا قَالَ: طُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ. وَلَمْ يَقُلْ: طُمَأْنِينَةَ الْحَالِ. فَإِنَّ الْحَالَ يَزُولُ وَيَحُولُ، وَلَوْ لَمْ يَحُلْ لَمَا سُمِّيَ حَالًا، بِخِلَافِ الْمَقَامِ. فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى السَّابِقَةِ وَالْحُسْنَى الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ. كَانَ هَذَا طُمَأْنِينَةَ الْمَقَامِ إِلَى الْأَزَلِ. وَهَذَا هُوَ شُهُودُ أَهْلِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|